فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر، وقيل: معين، كعتبة بن ربيعة.
ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال.
{دعا ربه} استجار ربه وناداه، ولم يؤمل في كشف الضر سواه، {منيبًا إليه} أي راجعًا إليه وحده في إزالة ذلك.
{ثم إذا خوله} أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه.
وحقيقة خوله أن يكون من قولهم: هو خائله، قال: إذا كان متعهدًا حسن القيام عليه، أو من خال يخول، إذا إختال وافتخر، وتقول العرب:
إن الغني طويل الذيل مياس

{نسي ما كان يدعو} أي ترك، والظاهر أن ما بمعنى الذي، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه.
وقيل: ما بمعنى من، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره.
وقيل: ما مصدرية، أي نسي كونه يدعو.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {نسي} أي نسي ما كان فيه من الضر.
وما نافية، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصًا لله مقصورًا من قبل الضرر، وعلى الأقوال السابقة.
{من قبل} أي من قبل تخويل النعمة، وهو زمان الضرر.
{وجعل لله أندادًا} أي أمثالًا يضاد بعضها بعضًا ويعارض.
قال قتادة: أي من الرجال يطيعونهم في المعصية.
وقال غيره: أوثانًا، وهذا من سخف عقولهم.
حين مسى الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به، فاللام لام العلة، وقيل: لام العاقبة.
وقرأ الجمهور: {ليضل} بضم الياء: أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وعيسى: بفتحها، ثم أتى بصيغة الأمر فقال: {تمتع بكفرك قليلًا} أي تلذذوا صنع ما شئت قليلًا، أي عمرًا قليلًا، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله.
{إنك من أصحاب النار} أي من سكانها المخلدين فيها.
وقال الزمخشري: وقوله: {تمتع بكفرك} أي من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك.
ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به، ونظيره في المعنى: {متاع قليل ثم مأواهم جهنم} انتهى.
ولما شرح تعالى شيئًا من أحوال الظالمين الضالين المشركين، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال: {أمّن هو قانت}.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية: {أمن} بتخفيف الميم.
والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله: {قل تمتع بكفرك}؟ ويدل عليه قوله: {قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
ومن حذف المقابل قول الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمرها ** سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره: أم غيّ.
وقال الفراء: الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت، ويكون قوله قل خطابا له، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده.
وضعف هذا القول أبو علي الفارسي، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة.
وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: {أمّن} بتشديد الميم، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره: أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب، وهو أن يحذف المعادل الأول.
واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل، والهمزة والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك.
وقال النحاس: أم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى.
ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة، يدل عليه مقابله: {إنك من أصحاب النار}.
والقانت: المطيع، قاله ابن عباس، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة.
وقرأ الجمهور: {ساجدًّا وقائمًا} بالنصب على الحال؛ والضحاك: برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين.
{يحذر الآخرة} أي عذاب الآخرة، {ويرجو رحمة ربه} أي حصولها، وقيل: نعيم الجنة، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف، قال مقاتل: عمار، وصهيب، وابن مسعود، وأبو ذر.
وقال ابن عمر: عثمان.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أبو بكر وعمر.
وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم.
والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين.
وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنه أرجح من قيام النهار.
ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال: {قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي.
والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه.
وقرأ: {يذكر}، بإدغام تاء يتذكر في الذال.
{قل يا عبادي الذين والذين آمنوا اتقوا ربكم} وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلى أرض الحبشة، وعدهم تعالى فقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}.
والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة، أي حسنة عظيمة، وهي الجنة، قاله مقاتل، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة.
وقال السدي: في هذه من تمام حسنة، أي ولو تأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا.
فلما تقدم انتصب على الحال، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى.
ثم حض على الهجرة فقال: {وأرض الله واسعة} كقوله: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} أي لا عذر للمفرطين البتة، حتى لو اعتلوا بأوطانهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات، قيل لهم: إن بلاد الله كثيرة واسعة، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات.
وقال عطاء: وأرض الله: المدينة للهجرة، قيل: فعلى هذا يكون أحسنوا: هاجروا، وحسنة: راحة من الأعداء.
وقال قوم: أرض الله هنا: الجنة.
قال ابن عطية: وهذا القول تحكم، لا دليل عليه. انتهى.
وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} وقوله: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب، كما جاء: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه.
وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء، وخصوصًا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة.
ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب، أي لا يحاسبون في الآخرة، كما يحاسب غيرهم؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة.
{قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصًا له الدين} أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله، يخلصها من الشوائب، {وأمرت} أي أمرت بما أمرت، لأكون أول من أسلم، أي انقاد لله تعالى، ويعني من أهل عصره أو من قومه، لأنه أول من حالف عباد الأصنام، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلامًا، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي قولًا وفعلًا، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء.
وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضًا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضًا من ترك الأصل الذي هو أطوع.
والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: {وأمرت أن أكون أول من أسلم} انتهى.
ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام، والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا {إني أمرت أن أعبد الله}.
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.
لما أمره أولًا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله، أمر ثانيًا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده.
وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص، قال: ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول.
فالكلام أولًا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده، وثانيًا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: {فاعبدوا ما شئتم من دونه}.
والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى.
وقال غيره: {فاعبدوا ما شئتم} صيغة أمر على جهة التهديد لقوله: {قل تمتع بكفرك} {قل إن الخاسرين} أي حقيقة الخسران، {الذين خسروا} أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، {وأهليهم} الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم.
وقال قتادة: كأن الله قد أعد لهم أهلًا في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران.
وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولًا، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللًا لمقابلة ما فوقهم، كما قال: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت ارجلهم} وقال لهم: {من جهنم مهاد ومن وفوقهم ومن غواش} وقيل: هي ظلل للذين هم تحتهم، إذ النار طباق.
وقيل: إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرًا.
{ذلك} أي ذلك العذاب، {يخوف الله به عباده} ليعلموا ما يخلصكم منه، ثم ناداهم وأمرهم فقال: {يا عباد فاتقون} أي اتقوا عذابي. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} من مرضٍ وغيره {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} راجعًا إليه ممَّا كان يدعُوه في حالة الرَّخاءِ لعمله بأنَّه بمعزلٍ من القُدرة على كشف ضُرِّه، وهذا وصف للجنس بحالِ بعضِ أفرادِه كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي أعطاهُ نعمةً عظيمةً من لدنه تعالى من التَّخولِ وهو التَّعهدُ أي جعله خائلَ مالٍ من قولهم فلانٌ خائلُ مال إذا كان مُتعهِّدًا له حسنَ القيامِ به أو من الخَولِ وهو الافتخارُ أي جعله يخُولُ أي يختالُ ويفتخرُ {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي نسيَ الضُّرَّ الذي كان يدعُو الله تعالى فيما سبق إلى كشفِه {مِن قَبْلُ} أي من قبل التَّخويلِ أو نسي ربَّه الذي كان يدعُوه ويتضرَّعُ إليه، إمَّا بناء على أنَّ ما بمعنى مَن كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى} وقوله تعالى: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} وإمَّا إيذانًا بأنَّ نسيانَهُ بلغ إلى حيثُ لا يعرف مدَّعوه ما هو فضلًا عن أنْ يعرفه من هو كما مرَّ في قوله تعالى: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} شركاءَ في العبادة {لِيُضِلَّ} النَّاس بذلك {عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التَّوحيدُ وقُرئ {ليَضلَّ} بفتح الياء أي يزدادَ ضلالًا أو يثبتَ عليه وإلا فأصلُ الضَّلالِ غيرُ متأخِّرٍ عن الجعل المذكور. واللامُ لامُ العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} خلا أنَّ هذا أقربُ إلى الحقيقةِ لأنَّ الجاعلَ هاهنا قاصدٌ بجعله المذكورِ حقيقةَ الإضلالِ والضَّلالِ وإنْ لم يعرف لجهله أنَّهما إضلالٌ وضلالٌ وأمَّا آلُ فرعونَ فهم غيرُ قاصدين بالتقاطِهم العداوةَ أصلًا.